Khazen

حصار كنيسة المهد

 

 

 

 

 

 

 

مقدّمة

 

 

شاء القدر، أو بتعبير آخر الإرادة الإلهية أن تكون هذه البقعة الجغرافيّة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، والتي تعاقب عليها الغزاة واختلطت فيها الأجناس والشعوب، من الكنعانيين حتى قبائل الفلسطو واليهود مروراً بالمصريين والأشوريين والرومان، ساحة مواجهات مفتوحة بين كل هذه العناصر المتناقضة، إنها "فلسطين" التي سمّاها هيرودوتس.

"فلسطين" عامةً والقدس خاصةً مهد الديانات السماوية الثلاثة. ويمكن القول مهد النزاعات والحروب في العالم، بين اليهودية، المسيحية والإسلامية. ففي أورشليم القدس، حائط المبكى، المسجد الأقصى وكنيسة المهد. والأخيرة هي المكان نفسه الذي يعتقد أنّ مريم العذراء وضعت فيها ابنها يسوع. وكنيسة المهد بنيت في القرن الرابع الميلادي، والكنيسة تحوي عظام الأطفال الذين قتلهم هيرودوس خوفاً أن يكون أحدهم المسيح المنتظر. وهي بدون شك إرث حضاري و أثري عظيم وكبير.

هذا الإرث أضحى في نيسان من العام 2002 دراما حقيقيّة، رصاص ولهيب ودم ونار وحصار ومفاوضات.

إنّه حصار كنيسة المهد.

 

 

  

حصار الكنيسة

 

جاءت عملية المهد في إطار عمليّة "السور الواقي" التي كان يقوم بها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، وقد تمت محاصرة رئيس السلطة الفلسطينيّة ياسر عرفات في مركز المقاطعة في رام الله، والهدف من هذه العملية كان ردع وإيقاف مسلسل التفجيرات الإنتحاريّة والتي كانت الحكومة الإسرائيلية تتهم السلطة الفلسطينيّة بتسهيلها وتمويلها. وقد وصفت مراسلة صحيفة الغارديان البريطانيّة سوزان غولدنبرغ هذه العمليّة بأنّها أشرس اعتداء إسرائيلي على الضفة منذ أوسلو وكان إعادة احتلال لها.

 

أما حصار كنيسة المهد، فقد بدأ في 2 نيسان 2002. فالمقاطعة كانت محاصرة وكان المسلّحون الفلسطينيّون محاصرين بدورهم ويتصدّون للهجوم الإسرائيلي. ولما اشتدّ الحصار وتزايدت وتيرة العنف، لم يكن من مهرب أمامهم إلاّ الدخول إلى بيت لحم من ثمّ إلى كنيسة المهد.

لقد تبيّن فيما بعد أن الإسرائيليين قد أوجدوا فسحة لعمليّة إنسحابهم حتى يستطيعوا إيقاعهم بكمين، فالجيش الإسرائيلي أراد للمسلحين أن يتوجّهوا ويدخلوا كنيسة المهد.

ولكن هنالك لغز، وهو هدف إسرائيل، فإذا سلّمنا جدلاً بأنه كان هنالك أمراً بدفع المسلّحين باتجاه الكنيسة، لماذا لم تنتظرهم الدبابات الإسرائيلية في ساحة المهد لاعتقالهم؟. والأغرب من ذلك أنّ الدبابات التي كانت موجودة هناك في الصباح انسحبت.

لقد برّر الجنرال غرشون هاكوهين المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي ذلك بالقول بأنّ المبدأ الأول في القتال خاصّة في المناطق المدنية هو ترك مخرج للعدو كي لا تضطرّه إلى القتال حتى الموت.

إذاً، اقتحم المسلّحون باب الكنيسة ودخلوها، وقرّر رجال الدين استضافتهم، وقد كان عددهم 237.

 

استراتيجية القتال والحرب النفسية

 

 

كلّ حرب تعتمد على مزيج من أساليب القتال والحرب النّفسيّة. وهذه الأخيرة تكون أحياناً الوسيلة الأنجح في ظروف مشابهة، فنحن إذا ما نظرنا إالى الحيوانات مثلاً، فإنّها تستخدم أحياناً في قتالها أساليب نفسيّة. فإبّان الحصار، عرف الإسرائلييّون أنّ المسلحّين يحبّون الدخّان وأنّه خلال يومين سينتهي. فكان ذلك جزء من الحرب النّفسيّة الّتي استخدمها الجيش الإسرائيلي. ثمّ بدأ هذا الأخير بالنّداء من مكبّرات الصّوت لمعالجة بعض المسلّحين الّذين كانوا جرحى. ثمّ قطعوا عنهم الماء، فالكهرباء ومنعوا أيّ شيء له علاقة بالغذاء أو الدّواء بالدّخول إلى الكنيسة. ميدانيّاً، كثير من الشّباب توزّعوا ليتولّى كلّ منهم المراقبة ولكن رغم قدرتهم على مواصلة القتال، غير أنّهم وكما يروي أحد المحاصرين، فضّلوا إحترام المكان الموجودين فيه. ولكن ذلك لم يمنع الإسرائليّين وفي اليوم الثّالث من الحصار من قتل قارع أجراس الكنيسة برصاصة من قنّاص، وفي اليوم نفسه حاولوا إقتحام الكنيسة وأضرموا النّار في أحد أركانها، وأطلقوا العيارات النّاريّة داخلها. إعلاميّاً، أدرك الإسرائليّون خطورة ما يحدث ومنعوا جميع الصّحفيّين عدا مرّاسل شبكة فوكس نيوز الأميركيّة من تغطية الأحداث الجارية.

 

 

تشكيل الوفد المفاوض وبدء المفاوضات

 

 

في 4 نيسان 2002 ، وصل وزير خارجيّة أميركا كولن باول إلى المنطقة وعقد عدّة لقاءات مع رؤساء الكنائس في القدس ووعدهم بأنّه سيحلّ المشكلة. غير أنّ الإدارة الأميركيّة كانت أكثر إهتماماً بما يحدث في رام اللّه وقد اعتبرت حصار المهد حدثاً جانبيّاً، وسيقوم الإتّحاد الأوروبيّ بحلّها.

وصل الوفد المفاوض في 18 من نيسان 2002، وقد تدخّل مساعد مبعوث الإتّحاد الأوروبي ألستر كروك بالإضافة إلى البريطانيّين والفاتيكان لحلّ الأزمة. أمّا الفلسطينيّون فكانوا بحاجة لتوحيد قناة تفاوضيّة، غير أنّ الإسرائيليّين أعلنوها صراحةً، لا أميركيّين، لا أوروبيّين، لا رجال دين ولا حتّى وفد من رام اللّه. وبالنّتيجة تشكّل وفد من المتواجدين في بيت لحم وهم متري أبو عيطة، حنّا ناصر(رئيس البلديّة)، طوني سلمان(رئيس الجمعية الأنطونيّة) وعماد النّتشه ضابط الإرتباط الفلسطيني، وصلاح التعمري.

فالمطلب الإسرائيلي الأوّل كان قائمة بأسماء الموجودين داخل الكنيسة، فأجاب الوفد الفلسطيني بطلب قائمة بأسماء المطلوبين.

وفيما كانت المفاوضات تجري، كان الإسرائيليّون يأتون بأسطوانات كلاب تنبح وأصوات هليكوبترات وأصوات إطلاق نار.

وفي 25 نيسان، تمت أوّل صفقة بين الجانبين، طالب الفلسطينيّون إخراج جثّتين، إشترط الإسرائيليّون أن يصحبهما 9 صبية إلى الخارج، فخرق الجانب الإسرائيلي الإتّفاق لدى إعتقاله أحد الشبّان بحجّة أنّ بحقّه تهم أمنيّة.

 

                  

صفقة الغداء مقابل الرّؤوس وقائمة بأسماء المحاصرين

 

 

 

إشتدّت وطأة الحصار، لا مياه، لا غذاء، لا شيء.عندها بدأ الحديث عن صفقة الغداء مقابل الرّؤوس، وقائمة بأسماء المحاصرين. أدرك صلاح التعمري أنّ إعطائهم القائمة، يعني إعادة تنشيط الإحتلال مرّة أخرى في بيت لحم بحثاً عن المطلومين خارج الكنيسة.

بالمقابل، وفي 26 نيسان، بدأت أزمة الرّئيس ياسر عرفات في الإنفراج قليلاً، بعد التوصّل برعاية أميركيّة بريطانيّة إلى إتّفاق يخصّ بعض المطلوبين إسرائيليّاّ داخل المقاطعة، وهم أفراد الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين والمشتبهين بقتل وزير السّياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي.

ولكن حاول المفاوضين أن يفصلوا بين ما كان يجري في بيت لحم وما كان يجري في رام الله، وقد اعتبروا أنّ الإتفاق في المقاطعة سيساهم في التركيز على موضوع الكنيسة. وقد تفرّغ أبو عمار والولايات المتّحدة للنظر في امرها.

وفقاً لصفقة الغذاء مقابل الرؤوس، حمل الوفد الفلسطيني طعاماً ودواء وساروا باتجاه الكنيسة. استقبلهم اللواء مارسيل، القائد العسكري العام، وكان بصحبته وباللّباس المدني مسؤول العلاقات العامة في المخابرات الإسرائيليّة في الضفّة الغربية المعروف بموشيه وطلب أن يجتمع مع الوفد الفلسطيني، فأبلغهم بأنّه من الغير المسموح إدخال الطعام. وسأل صلاح التعمري والوفد باي صفة وعلى أي أساس أتوا ليفاوضوا، وهل لديهم صلاحيات وممن هذه الصلاحيات؟

فبادره باّلرد على أساس أنّهم الوفد الفلسطيني المفاوض، وعندهم الصلاحيات الكاملة المستمدّة من الرّئيس.

فاشترط صلاح التعمري دخول الكنيسة بدون طعام ولكن بهدف الإطمئنان على أوضاع المحاصرين، غير أنّ الجانب الإسرائيلي اشترط الخروج بقائمة بأسماء الموجودين. فرفض الوفد الفلسطيني ذلك وهنا كانت الصّدمة، فأبلغهم موشيه بأنّه وفي هذه اللّحظة تجري مفاوضات ما بين الجانب الفلسطيني يمثلّه محمد رشيد(مستشار أبو عمار)والجانب الأميركي والجانب الإسرائيلي لحلّ مشكلة المهد. صعق الوفد الفلسطيني واستقال.

                  

المفاوضات بين شارون وأبو عمار

 

حقيقة الأمر وحسب ألساسة والصّحفيّين الإسرائيليّين، أنّ المفاوضات على كنيسة المهد كانت بين شارون وأبو عمار، وليس بين الوفود والقائد العسكري الإسرائيلي وصلاح التعمري. ومحمد رشيد كان المحرّك الأساسي لها. فاتّصل أبو عمار بصلاح التعمري لتجاوز الموضوع        والطلب منه بتقديم اللاّئحة بالأسماء داخل الكنيسة. وفي المقابل إرتفعت حرارة القنوات السريّة، فشارون كان يستعدّ لزيارة واشنطن، وهذه الأخيرة كانت متحمّسة لرفع الأمور وحلّها بنجاح قبل تلك الزّيارة.

 ÙÙŠ اليوم التالي، دخل أنطوان سلمان إلى الكنيسة ورأى المحاصرين يكتبون اللاّئحة بناءً على طلب أبو عمار، باعتبار أنّ الورقة سترسل مباشرةً إلى رام الله.واستلمها ألستر كروك وعماد النتشه. وسلّموا نسخة منها إلى الأوروبيّين والأميركيّين. وكان 126 من بين الموجودين تابعين للسّلطة الفلسطينيّة أي لا يحقّ لهم مخالفة الأوامر. وأبو عمار وافق على إبعاد 39 فلسطيني. واختفى محمد رشيد وتمّ إبعاد 26 إلى غزه Ùˆ13 تمّت بعثرتهم في أفريقيا وأوروبا،وقيل لهم أنّهم سيعودون بعد عام، ولم يعودوا بعد. 

 

الخاتمة

 

مأساويةً كانت نهاية حصار كنيسة المهد، وقد كان لها التأّثير السلبي على الداخل الفلسطيني. ولعلّ الرابح الأكبر، كان الطرف الإسرائيلي الذي حققّ ما أراد وتفاوض بالشروط التي تناسبه، فالإستراتيجيّة التي اتّبعها إن بالحرب النفسيّة أوالقتالية أو الإعلامية أو حتى على الطاولة التفاوضية كانت ناجحة وحققت له النتائج المطلوبة. وقد اتضّح مرة أخرى للعالم بأن الولايات المتحدة هي الطرف الرئيسي ومفتاح الحل في أي مفاوضات في الشرق الأوسط.

ولكن، لا بدّ من الذكر دور الكرسي الرسولي الذي كان شبه معدوماً خلال هذه الأزمة، وسخرية القدر هي أنّه القيم على حماية المقدّسات المسيحية في القدس. فلم نسمع سوى اتصال البابا بالأب ابراهيم فلتس قائلاّ له:"فليكن الله معكم، أنا أصلي لكم".