Khazen

 

سجعان قزي

@AzziSejean

 

الدويلاتُ السابقةُ التي نَشأت أثناءَ مرحلةِ الحربِ اللبنانيّة بين السبعيناتِ والتسعيناتِ كانت تنتظرُ عودةَ الدولةِ اللبنانيّةِ إثرَ “اتفاقِ الطائف” لتعودَ إليها. أما دويلةُ حزبِ الله اليوم فتَنتظرُ سقوطَ الدولةِ اللبنانيّة لتَحُلَّ مكانَها. وفيما نطالبُ الدولةَ أن تَضعَ حدًّا للسلاحِ غيرِ الشرعي ـــ ولو من بابِ التمنّي ـــ تلجأُ الدولةُ إلى وسائلَ غيرِ شرعيّةٍ لتُنفِّذَ نزواتِها وتسهِّلَ سيطرةَ حزبِ الله. حتى الدولةُ لم تَعد دولةً في لبنان. معابرُ التَسلُّلِ إلى الدولةِ سائبةٌ أكثرَ من المعابرِ الحدوديّة. فَقدَت السلطةُ شرعيّتَها. ومَن يَفقِدُ شرعيّتَه لا يعودُ يرى شيئًا غيرَ شرعيٍّ. بِـتنا نَعيشُ بين الدولةِ الـمُسيَّرةِ ودويلةِ المسيَّرات.

الاستنتاجُ الأوّل: عبثيّةُ مطالبةِ سلطةِ هذه الدولةِ بحلِّ دويلةِ حزبِ الله طالما هي جُزءٌ لا يَتجزّأُ منها. والاستنتاجُ الآخَر: ضرورةُ تغييرِ السلطةِ لنبنيَ دولةً جديدةً لا تَتنازلُ عن شرعيّتها وتُنفِّذُ الدستورَ والقوانين مهما كان الثمنُ لأنَّ أيَّ ثمنٍ يَبقى أرخصَ مـمّا نَدفعُه الآن. في هذا السياق، لماذا تَتحاشى الدولةُ التزامَ القراراتِ الدُوليّةِ لاسيما القراران 1559 و1701 خَشيةَ الاشتباكِ مع حزبِ الله، ولا يَتحاشى حزبُ الله انتهاكَ الدستورِ اللبنانيِّ والقراراتِ الدُوليّةِ وتعريضَ لبنانَ لخطرٍ عسكريٍّ خَشيةَ الاشتباكِ مع الدولة؟ الجواب: الحزبُ لا يَعتبرُها والدولةُ تخافُه.

علاوةً على الدولةِ بكلِّ مؤسّساتِها المدنيّةِ والعسكريّةِ، جميعُ الأطرافِ اللبنانيّين تحاشَوا حزبَ الله وتَساهلوا معه واكتفَوا بمواقفَ إعلاميّةٍ عابرةٍ رفعِ عتَبٍ أمامَ جماهيرهم. اسْتخلَصَ الحزبُ أنْ لا أحدَ يَجرؤ على التصدّي له مهما فعل، فاطْمأنَّ على وضعِه وتمادى في ممارساتِه حتّى تجاوزَ حدودَ الأدبِ في التَفَــوُّه بكلمات كــــ”التَكْنيسِ والترحيلِ والتخوينِ”… صحيحٌ أنْ لا أحدَ يَبحثُ عن صِدامٍ مع حزبِ الله، لكن إذا تخطّى حدودَه مثلما فَعلَ في عين الرمانة فسيَجدُ الردَّ الملائِم. فالعينُ سهرانة والرُمّانةُ ملآنة.

يَجدُر بالقِوى اللبنانيّةِ أن تَعتزِلَ عادةَ المداراةِ والملاطَفةِ والممالَقةِ لحزبِ الله والتَطبّعِ مع واقعِه. استنفدَت هذه القوى مختلَفَ السُبلِ للحوارِ مع حزب الله، فأوْصدَ جميعَ الأبوابِ والنوافذ وما تَرك سوى ساحةِ المواجَهة. لا بل كلّما دَعوْناه إلى الحوارِ استَضْعَفَنَا وتَشدَّد. غريبٌ أن يُقبِلَ حزبُ الله على الحوارِ والتحالفِ مع الحوثيّين في اليمن، وألويةِ النظامِ في سوريا، والحشدِ الشعبيِّ في العراق، وحماسِ في غَزّة، ويَتكبّرَ على الحوارِ مع اللبنانيّين.

الدعوةُ إلى مواجهةِ حزبِ الله ليست بالضرورةِ مشروعَ اشتباكٍ عسكريٍّ، فنحن لا نزالُ حتى كتابةِ هذه الأسطرِ أهلَ شراكةٍ سلميّةٍ، إنّما هي دعوةٌ إلى مواجَهةِ مشروعِ إسقاطِ الدولةِ نهائيًّا وتقسيمِ لبنان. هي دعوةٌ إلى إخطارِ حزبِ الله بأنّنا نَرفضُ واقعَه واحتقارَه جميعَ اللبنانيّين واعتبارَهم كَوْمةً بَشريّةً لا رأيَ لهم ولا كلمةَ في تقريرِ مصيرهم. هي دعوةٌ إلى أن يَتذكّرَ حزبُ الله تأنيبَ الخليفةِ عُمر بن الخَطّاب حاكمَ مِصر عَمرو بن العاص نحو سنةِ 642: “متى اسْتعبَدتُم الناسَ وقد وَلدَتْهم أمّهاتُهم أحرارًا؟”. هي دعوةٌ إلى أن يحترمَ حزبُ الله سائرَ اللبنانيّين وبأنْ لا شراكةَ بالخضوعِ لمشيئتِه وعقيدتِه وسلاحِه، بل باللقاءِ عندَ مستديرةِ الحضارةِ وتقاطعِ الإنسانِ والقرنِ الحادي والعشرين. هي دعوةٌ إلى إبلاغِ جميعِ دولِ العالم بأنَّ لبنانَ يُعارض ممارساتِ حزبِ الله ويُصِرُّ على عقدِ مؤتمرٍ دُوليٍّ لضمانِ الكيانِ اللبناني في إطارِ دولةِ القانونِ والحرّياتِ والحِياد. هي دعوةُ أَلَّا يَظنَّ حزبُ الله أن تفاهمَ أميركا وإيران على الـمَلفِّ النوويِّ في ڤيينا سيقوّي نفوذَه في لبنان ويُضعِفُ نفوذَ القوى السياديّة. فنحن هنا قبلَ ڤيينا وأثناءَها وبعدَها.

لا يستطيعُ لبنانُ أن يبقى أسيرَ معادلة: إما أن نَدَعَ حزبَ الله مُهيمِنًا وطليقًا وحاصِرًا به قرارَ الحربِ والسلمِ ومالكًا جيشًا خاصًّا به وبإيران، وإما أن تَقعَ حربٌ أهليّةٌ بينَه وبين الجيشِ أو بينَه وبين أطرافٍ لبنانيّةٍ أخرى. لا نَقبلُ أن يُخيّرَنا حزبُ الله بين الخضوعِ له أو مقاومتِه. ألا توجدُ مساحةُ نقاشٍ وتفاهُم؟ ألسنا أبناءَ وطنٍ واحد؟ هذا المنطقُ المتعالي يُعرِّضُ وِحدةَ لبنان لخطرٍ محتَّمٍ، ويؤدّي عاجلًا أو آجِلًا إلى اعتداءٍ إسرائيليٍّ مدمِّرٍ أو إلى سقوطِ السلمِ الأهليّ بفعلِ الواقعِ المشحونِ والمتفجِّر.

بين المواجَهةِ السياسيّةِ والاشتباكِ العسكريِّ توجد مساحةٌ سلميّةٌ كبيرةٌ تَسمحُ بأن: 1) تتألّفَ جبهةٌ وطنيّةٌ تحمِلُ مشروعَ تغييرٍ وطنيٍّ يحْيي لقاءَ القوى السياديّةِ الوازنِةِ وتَطرحُ نفسَها المحاورَ الرئيسيَّ لمراكزِ القرارِ في العالم. 2) تَرفعَ الشرعيّةُ اللبنانيّةُ الغطاءَ عن حزبِ الله. 3) تُوقفَ السلطاتُ تبريرَ أعمالِه العسكريِّة وسلاحِه في المؤتمراتِ العربيّةِ والدوليّة. 4) تسيطرَ الدولةُ على الحدودِ البريّةِ والمطارِ والمرافئ. 5) تَعمِدَ إلى تنفيذِ “إعلانِ بعبدا” والقراراتِ الدُوليّة وتَبنّي مشروعِ الحِياد. 6) تَدعمَ القوّاتِ الدُوليّةَ العاملةَ في الجَنوبِ فيتَصدّى الجيشُ لأيِّ جماعةٍ تعتدي عليها. 7) تُجلِيَ حزبَ الله عن الممتلكاتِ التي صادَرها واحتلّها بقوّةِ السلاحِ تحت ذرائعَ باطلةٍ في مناطقِ جبيل والجَنوبِ والبقاع والشوف. 8) تَتخطّى الفيتوات التي يَضعُها حزبُ الله على مؤسّساتِ الدولةِ وفي طليعتِها مجلسُ الوزراءِ والقضاءُ وعلى حريّةِ تَحرّكِ الجيشِ اللبنانيّ وسائرِ الأجهزةِ الأمنيّة. 9) تَتوجهَ الدولةُ إلى الأممِ المتّحدةِ وتُبلِغَها الأسبابَ التي تُعرقلُ تنفيذَ القراراتِ الدُوليّةِ وتَمنُع بسطَ سلطاتِها على كاملِ الأراضي اللبنانيّة. 10) تُلقيَ القبضَ على جميعِ المطلوبين للعدالةِ والفارين إلى مناطقِ نفوذِ حزبِ الله. 11) تُعيدَ النظرَ في فكرةِ ربط معالجة كلِّ موضوعِ حزب الله في لبنان بمصير النفوذِ الإيرانيِّ في المنطقةِ لتَتنصَّلَ الدولةُ من مسؤوليّةِ القيام بأيٍّ مبادرةٍ للحدِّ من نفوذِ الحزبِ في لبنان. 12) تُجريَ استفتاءً شعبيًّا برعاية دُوليّةٍ لمعرفةِ نسبةِ اللبنانيّين الذي يريدون محاربةَ إسرائيل. فإذا كان يوجدُ إجماعٌ لبنانيٌّ على اعتبارِ إسرائيل عدوًّا، لا توجد أكثريّةٌ لبنانيّةٌ متعدِّدةُ الطوائفِ تريد محاربةَ إسرائيل واستمرارَ سلاحِ حزب الله.

ماذا يبقى للحوارِ حين يعتبرُ حزبُ الله معركةَ الانتخاباتِ في أيّار المقبلِ صِنْـوَ حربِ 2006؟ أي أنّ منافسيه اللبنانيّين هم، بنظرِه، إسرائيليّون، أيْ أعداءَ… كلماتٌ مهينةٌ وهي بمثابةِ اعتداءٍ مباشَرٍ على كلِّ لبنانيٍّ خارجَ بيئةِ حزب الله. لكنَّ الوجهَ “الإيجابيَّ” لهذا “الكلامِ العُدوانيّ” أنّه يبِّررُ صدورَ قرار 1701 جديدٍ يَفصِلُ شرعيًّا بين حزبِ الله وسائرِ اللبنانيّين.

*****