Khazen

جريدة "النهار" في 03 تشرين الأوّل 2007 ـ صفحة القضايا

سجعان قزي

الظروفُ الإقليميةُ والدوليةُ المحيطةُ بانتخاباتِ رئاسةِ الجمهوريةِ سنةَ 2007 تُشْبِه، في أوجُهٍ عديدة، ظروفَ انتخاباتِ سنةِ 1982: صراعٌ استراتيجيٌّ، مواقفُ متطرفـةٌ، لعبةُ أممٍ، وحلولٌ راديكاليةٌ على صخورِها تَتحطّمُ المبادراتُ المحلية. وإذا طبيعةُ الصراعِ اليومَ تَغـيّرت، فحِدَّته زادَت مع أطرافٍ جددٍ كـ"القاعدةِ" وإيرانَ وحزبِ الله والأصولياتِ السُـنّـية. سنةَ 1982 واجهَ العالمُ الحر، بقيادةِ أميركا، الشيوعيةَ الدوليةَ عَـبْـرَ حلفائِها في الشرقِ الأوسط ولبنان. واليومَ يَتصدّى العالمُ الحر، بالقيادةِ نفسِها، للأصولياتِ الآسيويّةِ والشرقِ أوسطية عبرَ دولٍ ومنظّماتٍ اتخَذَت من لبنانَ مَـيْداناً ومِنصةً وقاعدة.

في المنطقةِ، حَـلّت القاعدةُ وإيران وسوريا مكانَ الاتحادِ السوفياتي. في لبنانَ، أخَذ حزبُ الله وتجمُّـعُ 8 آذار ولقاءُ 14 آذار أدوارَ منظمةِ التحريرِ الفِلسطينية والحركةِ الوطنية والجَبهةِ اللبنانية. في فِلسطين، احتلّت حماسُ والجِهادُ الإسلاميُّ الصدارةَ مكانَ منظّمةِ فَـتْح. وإلى الصراعِ العربي ـ الإسرائيليِّ المستَمِرُّ، تَفجَّر الصراعُ السُـنّي ـ الشيعي على خلفيةٍ فارسيّـةٍ ـ عربية.

هذا الصراعُ الحضاريُّ والدينيُّ والسياسيُّ والاقتصاديُّ كان يَنقُصه صاعقُ تفجيرٍ جديدٍ بعدَ صاعِقَيْ بن لادن في أفغانستان وصدّام حسين في العراق، فجاء عَبر سَعيِ إيران إلى اقتناءِ السلاحِ النوويِّ والهيمنةِ على شعوبِ المِنطقة. وإذا كانت الدولُ العربيةُ والأوروبيةُ سنةَ 1982 تَحفَّظت عن الحربِ الإسرائيليةِ ضد الفِلسطينيين لوجودِ قضيةِ شعبٍ فِلسطيني، فلن تَـنْـتَحِبَ اليومَ على إيران النوويّةِ، وسوريا المُشاغِبةِ، وحزبِ الله المحتفِظِ بسلاحٍ مدَمِّـرٍ رُغم انسحابِ إسرائيل من لبنان منذ سنةِ 2000 (مع احترامنا مزارعَ شِبعا).

إنَّ لبنانَ ـ بعدما استوطَـنَـتْـهُ هذه الصراعاتُ، بفعلِ انقسامِ شعبِه ـ عاد مركزَ المواجَهةِ الجديدةِ بين المعسكرين. وأياً يَكن شكلُ المواجَهةِ، لا يستطيعُ العالمُ الحرّ، لألفِ سببٍ وسببٍ، أنْ يَخسَرَ المعركة. ولأن استحقاقَ رئاسةِ الجمهوريّة، في هذه الأجواءِ والخلفيّات، هو أحدُ أشكالِ المواجَهةِ في هذا الصراعِ الاستراتيجيّ، فلن يُسمحَ لإيران ولسوريا ولحزبِ الله بتعطيلِ الانتخابات، ولا بفرْضِ رئيسٍ من جُعبَـتِهم، ولا بإسقاطِ الحُكمِ العتيد. فبعدَ النكسةِ الإسرائيليةِّ العسكرية سنةَ 2006 ضدَّ حزبِ الله، لن تَتحمّلَ أميركا نَكسةً سياسيةً ضِدّه (وتالياً ضِدَّ سوريا وإيران) سنةَ 2007. لذا، إنَّ رئيسَ الجمهوريَّةَ اللبنانية الجديد، سَواء انْـتُـخِبَ بالثُلثين أم بالأكثريّةِ العاديّة، سيكون رئيسَ جَبهةِ العالمِ الحرّ في لبنان. ولأنَّ هذه هي مهمةُ الرئيسِ الجديد، لا يَكفي للمرَشّحِ أن يَنتميَ إلى 14 آذار ليُصبحَ حُكماً رئيساً صالحاً للمرحلة المقبلة.

إنَّ لبنانَ ينتظرُ رئيساً يَحمِلُ قضيةَ شعبِه التاريخيّة، يَفْـقَـهُ أبعادَ الصراعِ الإقليميِّ والعالميِّ، ويُقدِّمُ خُطّـةَ إنقاذٍ للبلاد. إنَّ لبنانَ ينتظرُ رئيساً يَتميّـزُ، عِلاوةً على الأخلاقِ والنَزاهةِ، بشجاعةٍ وبُرودةِ أعصاب، برَباطةِ جأش وصمودٍ تِجاه التحديّاتِ، بِخُبرةٍ سياسيةٍ وثَباتٍ وطنيٍّ مجَـرَّب. فلبنان اليومَ أمامَ خمسةِ تحديات:

1) إنجازُ الوفاق، انطلاقاً من الثوابتِ الوطنيةِ "لاتفاقِ الطائف"، على أُسسٍ حديثةٍ تأخذُ في الاعتبارِ مُستَوجِباتِ التعدديةِ اللبنانيةِ (اللامركزية أو الفِديرالية).

2) تعزيزُ وجودِ المسيحيّين في لبنان بعدما تَناقصَ عددُهم بفعلِ الهِجرةِ، وإحياءُ دورِهِم في السلطةِ إثرَ تهميشِه طَوالَ سنواتِ الاحتلالِ السوري.

3) التصدّي لكلِّ فئةٍ داخليةٍ أو جِهةٍ خارجيةٍ تَحولُ دونَ تطبيقِ قراراتِ الدولةِ وتَعصَى شرعيّةَ الأممِ المتحدّةِ وقراراتِها المتعلِّقةِ بلبنان.

4) تحضيرُ لبنانَ لولوجِ عهدِ الدولة القويّـةِ (بجيشِها)، المُهابةِ (بسلطتِها)، المحايِدَةِ (بسياستِها)، والمدنيّـةِ (بمجتمعِها).

5) إعادةُ ثقةِ المواطنين، لاسيما الشبابُ منهم، بوطنِهم ودولتِهم (حلُّ مشكلةِ المديونيّةِ، إيجادُ فرصِ عملٍ، وقفُ الهِجرة، إلخ.).

أنّـى للبنانَ مثل هذا الرئيسِ والبحثُ جارٍ عنه بين سحورٍ وإفطارٍ وعِظةٍ في قداس؟ أنّـى للبنانَ مثل هذا الرئيسِ ومعظمُ السياسيين في الفريقين (8 و 14 آذار) يُمارسون سياسةً صغيرةً في لُعبةِ الأمم، أو لعبةَ الأممِ في وطنٍ صغير؟

إن اختيارَ رئيسِ الجمهوريّةِ يَجب أن يَتخطّى نَظرِيَتي الوفاقِ (وفاقٌ مع مَن؟) والتحدّي (تَحدٍّ لمن؟) إلى مشروعِ الرئيسِ الإنقاذي. فالرئيسُ الوفاقي يَعني ـ في المفهومِ اللبناني ـ الإتيانَ برئيسٍ يُديرُ الأزْمةِ، كما أنَّ رئيسَ التحدّي يَعني ـ في البيئةِ الحالية ـ الإتيانَ برئيسٍ يُطـبِّقُ القراراتِ الدولية. وفي ظِلِّ الوضعِ الحالي، يَخشى اللبنانيون الخِيارَ بين رئيسٍ يأتيهم بسلامٍ من دونِ حلٍّ (الوفاق)، وآخرَ يأتيهم بحلٍّ من دونِ سلام (التحدّي).

إنَّ جوهرَ الصراعِ الدائرِ في الشرقِ الأوسطِ يُعقِّدُ مشاريعَ التسوياتِ في لبنان، بما فيها الاتفاقُ على رئيسٍ وفاقيٍّ للجُمهورية. وكلُّ الدعمِ الذي يُقدِّمه الأطرافُ المحلـيّون لمبادرةِ رئيسِ مجلسِ النوّابِ الأستاذ نبيه برّي، يَظلُّ عديمَ الفائدةِ، ما دامَ هؤلاء مرتبطين عُضويّـاً بالصِراعِ الخارجيّ. وبِقدْرِ ما تُشيعُ حركةُ الاتّصالاتِ جوَّ تفاؤلٍ، فجمودُ الصراعِ يُرجِّحُ التشاؤم.

الاتفاقُ على اسمِ رئيسِ الجُمهوريّةِ صعبٌ بدون الاتفاقِ على نَهجِ حُكمِه. والاتفاقُ على نَهجِ الحُكم مُتعذِّرٌ بدونِ الاتفاقِ على تسويةٍ وطنيّةٍ جديدة. والاتفاقُ على تسويةٍ وطنيةٍ جديدةٍ باطلٌ قَبلَ نضوجِ التسويةِ الإقليمية. ونضوجُ التسويةِ الإقليميةِ مُستحيلٌ قبلَ تغييرِ موازين القوى. وتغييرُ موازينِ القوى يَستوجِبُ عملـيّـةً عسكريةً تُدمِّر الـبُـنى العسكريةَ للنظامين الإيرانيِّ والسوريِّ ولحزبِ الله، أو أنْ يَنتصرَ هؤلاء على أميركا وإسرائيل، فيـَطرُدون الأولى من الشرقِ، ويَقضُون على وجودِ الثانية.

في مقابلِ هذه الجدليةِ المقفَلةِ التي تَربُط الحلولَ السياسيةِ بتنفيذِ عملٍ عسكريٍّ، ثَـمّـةُ جدليّةٌ مفتوحةٌ تـأمَلُ بتمريرِ الحلول عَـبْـرَ التهديدِ الفِعليِّ بعملٍ عسكريٍّ من دونِ القيامِ به. هكذا تَنتَزُع أميركا وإسرائيل تنازلاتٍ من سوريا وإيران، ومن حزبِ الله استطراداً، وكأنَّ الحربَ وقَعت وهؤلاء خَسِروها. إنَّ الشرقَ الأوسطِ وإيران يعيشان "حرباً بيضاء" كما أنَّ أميركا وإسرائيل تُمارِسان "مِسَّوَدةِ حربٍ". ولا ننسى هنا، أنَّ العقوباتِ الدوليةَ المتصاعدَةَ على إيران وسوريا موجِعةٌ ومؤذيةٌ اقتصاديّـاً ومالـيّـاً ومعيشيّـاً خلافاً للانطباعِ الإعلاميِّ الذي تُوحي به الدولتان.

هذا الشعورُ بالخطرِ الداهِم، دفعَ إيرانَ وسوريا إلى تَليينِ موقِفـيْـهِما. فالمسؤولون السياسيّون في دمشقَ وطهران يُدركونَ أنَّ قَبولَ تنازلاتٍ محدودةٍ مِن دونِ تدميرِ جيشيْهِما ونظاميْهِما أفضلُ من تنازلاتٍ شاملةٍ بعد دَمارِهما. والقادةُ العسكريون في الدولتين يَعرفون أنَّ نتائجَ الضربةِ العتيدةِ ستكون، عسكرياً على الأقل، شبيهةَ الحربِ الأميركيّةِ على العراق سنةَ 2003 لا الحربِ الإسرائيليّةِ على لبنان سنةَ 2006. فالأولى هي القاعدةُ العامّةُ، والثانيةُ هي الاستثناءُ الخاص

ملامحُ "التغييرِ" في الموقِفِ السوريِّ بَرزت في: تشديدِ المراقَبةِ على الحدودِ السوريّةِ ـ العراقـيّةِ (منذ حزيران 2007). تأكيدِ وزيرِ خارجيّةِ إسبانيا قَبولَ سوريا بوضعِ مزارعَ شِبعا تحتَ وِصايةِ الأممِ المـتّحدة (أول آب 2007). محاولةِ طمسِ خبرِ الغارةِ الإسرائيليةِ على شمالي سوريا (06 أيلول 2007). اغتيالِ "مُـتَـعَهِّدِ" إرسالِ المقاتلين من سوريا إلى العراق، الداعيةِ محمود غول آغاسي المعروفِ بـ"أبو القعقاع" في حلب (28 أيلول 2007).

أما ملامحُ "التغييرِ" في موقِفِ إيران، فتَـتَـجسّدُ في: الحوارِ المفتوحِ مع السعوديةِ حولَ منطقةِ الخليجِ والعراقِ ولبنان. نفي طهران نَصْبَ 600 صاروخٍ مُوَجَّـهٍ نحو إسرائيل. الوعودِ الجديدةِ المعطاةِ إلى ألمانيا والأممِ المتحدة بِصددِ بَرنامَجِها النوويِّ. واستعدادِها لتسويةٍ شاملةٍ مع أميركا تَشمُلُ كلَّ قضايا المنطقةِ الممتَدَّةِ من أفغانستان إلى لبنانَ وفِلسطين.

لكنَّ هذه التغييراتِ العلنيّةَ لم تُحدِث تَبدُّلاً حقيقياً على صعيدِ المَلفِّ النوويِّ الإيرانيِّ، ولا على صعيدَيْ الوضعِ السياسيِّ في لبنانَ والأمنيِّ في العراق. ولا تزالُ الولاياتُ المتحدةُ الأميركيةُ تَعتبرُ الانعطافَ السوريَّ والإيرانيَّ مناورة. فما لَمْ تُساهِم سوريا وإيران في تنفيذِ القراراتِ الدولـيّةِ المتعلِّقةِ بلبنان لتسهيلِ انتخابِ رئيسِ جُمهوريّةٍ ونَزْعِ سلاحِ حزبِ الله، وما لَمْ يُوقِفا الدعمَ التامَّ للميليشياتِ المتعدِّدةِ في العراق لتسهيلِ الانسحابِ الأميركيِّ التدريجيِّ، فالصراعُ مستمِرٌّ بنصابِ كلِّ الأطراف.

في هذه الحالةِ، يَتعذَّرُ على "ثورةِ الأرزِ" أنْ "تَتنازلَ" عن رئاسةِ الجمهوريةِ لشخصيّةٍ غيرِ إنقاذية، فالفوزُ بهذا المَنصِبِ هو تتويجُ نضالِ ثلاثِ سنواتٍ، وضمانُ بناءِ دولةِ السيادةِ والاستقلال. وحين تكون طبيعةُ الصراعِ في لبنان والمنطقةِ بهذا الاتّساعِ، تَضيقُ فُرصُ التوافقِ (من دونِ أنْ تَنعدِمَ)، ويَتَقلّصُ عددُ المرشحين لرئاسةِ الجمهورية. فكم مُرشَحاً جِدّياً يبقى أهلاً لرئاسةِ "الجبهة اللبنانية" ؟

**********************************************************